عاقبة الظلم...
كتبت إحدى الزوجات إلى محرر زاوية «بريد الجمعة» في جريدة «الأهرام» المصرية رسالة تقول فيها:
دفعني للكتابة إليك بيتا الشعر اللذان قرأتهما في ردك على إحدى الرسائل التي وصلتك من أحد القراء, ويقول البيتان:
إنما الدنيا هباتٌ
وعوار مُسترده
شدةٌ بعد رخاءٍ
ورخاءٌ بعد شده
فأردت أن أروي لك قصتي عسى أن تكون عبرة لغيري...
أنا زوجة وأم لفتاة بالسنة النهائية بإحدى الكليات النظرية.. ولي بالإضافة إلى الفتاة ابن متزوج ولديه طفلان.. وزوجي ضابط عسكري بالمعاش.. ونحن نعيش في أحد أحياء القاهرة..
ومنذ أن بدأتُ حياتي مع زوجي ونحن نعيش في حياة رغدة.. وقد استعنت طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربيات عديدات.. لا أتذكر عددهن من كثرتهنَّ!!.. ولا عجب في ذلك.. فقد كانت كل واحدة منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين.. ثم تفرُّ من قسوة زوجي العدواني بطبعه.. والذي لا أعرف هل اكتسب عدوانيته هذه خلال رحلة حياته أم أنها وراثية فيه؛ فقد كان يتفنن في تعذيب أي مربية تعمل عندنا.. ولا أنكر أني شاركتُه في بعض الأحيان جريمته بالقسوة على هؤلاء المسكينات..
(2)
ومنذ خمسة عشر عامًا.. وحين كانت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة المتوسطة.. جاءنا مزارع من معارف زوجي.. ومن أبناء بلدته.. يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام التسعة.. فاستقبله زوجي بكبرياء.. فقال المزارع البسيط لزوجي..
إنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهًا في الشهر!!..
ووافقنا على ذلك.. وترك المزارع المكافح طفلته الشقراء عندنا وهمَّ بالرحيل.. فانخرطت الطفلة في البكاء.. وهي تُمسك بجلباب أبيها.. وتستحلفه ألا يتأخر عن زيارتها.. وألا ينسى أن يسلم لها على أمها وأخواتها.. وانصرف الأب وهو دامع العينين.. وقد وعدها بتنفيذ ما طلبته منه..
وبدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا.. فكانت تستيقظ في الصباح الباكر قبل أن يستيقظ طفلاي لتساعدني في إعداد طعام الإفطار لهما.. تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع.. وتظل واقفة مع ابني وابنتي حتى تحملهما حافلة المدرسة.. وتعود للشقة بعد ذلك فتتناول طعام إفطارها.. وكان في الغالب فولاً بدون زيت وخبزًا على وشك التعفن!!
وفي بعض الأحيان قد نجود عليها بقليل من العسل الأسود أو الجبن..
ثم تبدأ بعد الإفطار في ممارسة أعمال البيت من تنظيف وشراء الخضر والمسح والكنس والطبخ.. وتلبية النداءات والطلبات الخاصة بأهل المنزل إلى منتصف الليل.. فتسقط حينئذ على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم..
وعند أي هفوة أو نسيان أو تأجيل أداء عمل مطلوب منها.. ينهال عليها زوجي ضربًا بقسوة شديدة.. فتتحمل الضرب باكيةً صابرة.. ورغم ذلك فقد كانت طفلةً في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها.. تفرح بأبسط الأشياء.. وكانت دائمًا تحنُّ إلى أبيها وأمها وأخواتها وقريتها..
ورغم اعترافي بأني كنتُ شريكةً لزوجي في قسوته على الخادمات.. وتفَننهُ في تعذيبهن.. حتى أنه كان أحيانًا يختلق الأسباب لضرب أي خادمة تعمل عندنا.. إلا أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان على هذه الفتاة لطيبتها وانكسارها وإخلاصها. فأناشدُ زوجي ألا يضربها..
وأقول له: إنها قد كبُرت وتعودت على طباعنا.. وتحملتنا كثيرًا فلا داعي للاستمرار في ضربها..
فكان يقول لي ضاحكًا: إنه لو لم يضربها فستطلب هي بنفسها منه أن يضربها!!.. لأنها قد تعودت على ضربه..
ثم يُتابع قائلاً: إن هذا الصنف من الناس لا تنفع معه المعاملة الطيبة..
* * * *
(3)
واستمرت الفتاة معنا.. تتحمل العذاب في صمت وصبر.. وأتذكر الآن أنه حين كان يأتي العيد يخرج طفلاي مبتهجين مُدللين.. بينما تبقى هذه الطفلة التي تماثلها في العمر تنظف وتغسل دون شفقة أو رحمة..
وبعد أن تنتهي من أعمالها الشاقة ترتدي فستانًا قديمًا لكنه نظيف.. لأنها كانت تحرص على نظافة ملابسها البسيطة.. أما أبوها فلم تره تلك الطفلة إلا مرات معدودة بعد عملها عندنا.. فقد انقطع عن زيارتها بعد شهور.. وبدأ يرسل أحد أقاربه لاستلام أجرتها الشهرية..
كما أنها لم ترَ أمها وإخوتها إلا في ثلاث مناسبات محددة:
الأولى: حين مات شقيقها الأكبر في حادث عند عودته من الأردن.. وكانت الفتاة المحرومة تُعلق عليه آمالاً كثيرة.. وتحلم بأن ينتشلها من العذاب الذي تعانيه عندنا.. فإذا به يلقى مصرعه وتفقد آخر أمل لها في النجاة.. فبكت عليه بحرقة وسرًا حتى لا يراها زوجي.. فتلقى عقابًا شديدًا على يديه.
والمرة الثانية لم تكن تعاطفا منا عليها.. وإنما كانت تخلصًا منها في الحقيقة.. فقد كانت مصابة بمرض مُعدٍ.. وخشينا على طفلينا من انتقال العدوى إليهما بواسطتها.. فأبعدناها إلى بلدتها بحجة أن ترى أمها وإخوتها..
وكانت المرة الثالثة عند وفاة أبيها.. بعد أن دخلت مرحلة الصبا.. واستقر الحزن والانكسار في قلبها..
وأقولها بكل صراحة:
إني أبكي الآن كلما تذكرتُ قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أيَّ خطأ.. وكان لابدَّ أن تخطئ.. كأي طفلة صغيرة.. بل كأي إنسان..
لقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!!.. وكثيرًا ما حرمناها من وجبة العشاء في ليالي البرد القارسة.. فباتت على الطوى جائعة.. ولا أتذكر أنها نامت ليلة لمدة سنوات طويلة دون أن تبكي!!..
(4)
وسوف تتساءل: ولماذا تحملت الفتاة كل هذا العذاب ولم تهرب بجلدها من جحيمكم وقسوتكم؟!!
وأُجيبك بأن الفتاة حين قاربت سن الشباب.. خرجت ذات يوم لشراء الخضروات ولم تعد إلى البيت.. فسأل زوجي البواب عنها.. وعرف أنها كانت تتحدث لفترات طويلة مع شاب يعمل لدى جزار بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على أن يتزوجها وينتشلها من هذا الجحيم الذي تعيش فيه..
وبدأ زوجي في البحث عنها.. ولم يمضِ أسبوع حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها.. واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب والقسوة..
فقام زوجي بصعقها بالكهرباء.. وتطوع ابني بركلها بعنف.. بينما بكت ابنتي وهي تقول لأبيها: حرام يا بابا.. هذا حرام.. حرام..
ففقد زوجي سيطرته على نفسه واستدار إليها وضربها هي أيضًا.. وكانت هذه المرة الأولى في حياتها التي يضربها فيها أبوها!!..
وعادت الفتاة لحياتها الشقية معنا.. واستسلمت لمصيرها المقدور.. واستمر الوضع كما كان عليه، تخطيء أو تؤجل عمل شيء بعض الوقت.. فيضربها زوجي ضربًا مبرحًا.. ونخرج في الإجازات للفسحة والنزهة.. ونترك لها بقايا طعام الأسبوع لتأكله..
ثم شيئًا فشيئًا بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها.. وأنها تعثر كثيرًا في مشيتها، فعرضناها على طبيب العيون فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جدًا بسبب ما تتلقاه من صدمات وضربات على منطقة الدماغ والعين.. وأنه ينسحب ويتقلص تدريجيًا.. وأنها لا ترى حاليًا قدميها.. أي أنها أصبحت شبه عمياء!!..
ورغم ذلك كله فلم نرحمها.. وظلت تقوم بكل أعمال نظافة المسكن.. وتخرج لشراء الخُضَر كما كانت تفعل.. وكثيرًا ما صفعتُها إذا عادت من السوق بخضروات ليست طازجة.. وكثيرًا ما كانت تفعل ذلك لضعف بصرها الشديد..
فأشفقتْ عليها زوجة البوَّاب.. فكانت تُجلسها في مدخل العمارة وتذهب هي لشراء الخضروات لها.. حتى تُنقذها من الإهانة والضرب.. واستمر الحال هكذا لفترة من الزمن..
(5)
ثم خرجت الفتاة ذات يوم من البيت بعد أن أصبحت كفيفة تقريبًا، ولم تعد إليه مرة أخرى.. ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة.. لأنها أصبحت في حكم العمياء تقريبًا.. وماذا نصنع بعمياء؟!!
ومضت السنوات فأُحيل زوجي للتقاعد.. واستقبل حياة الفراغ.. وفقد المنصب والنفوذ.. فتضاعفت عصبيته وثوراته.. وانقلاباته إلى حد غير محتمل.. ومع ذلك فقد تحملتُهُ بسبب عِشرة السنين..
وتخرج ابني من الجامعة وعمل وتوظَّف ثم عزم على الزواج بإحدى الفتيات.. فخطبناها له.. وهي فتاة رائعة الجمال..
وتزوجها وسعدنا بها.. واكتملت سعادتنا حين عرفنا أنها حامل، ثم جاءت اللحظة السعيدة.. وضعت مولودها الأول.. فإذا بنا نكتشف الحقيقة القاسية؛ إنه طفلُ أعمى لا يُبصر!!.. وتحولت الفرحة إلى سحابة كثيفة من الحزن القاتم..
وبدأنا الرحلة الطويلة مع الأطباء.. نتنقل من طبيب لآخر.. بحثًا عن علاج لهذا العمى الذي أصاب المولود الجديد.. ولكن بدون نتيجة..
واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع.. وانطفأ الأمل في قلبيهما.. وأدْخلْنا حفيدنا الموعود بالعناء والنصب حضانةً للأطفال المكفوفين والعميان..
وقررت زوجة ابني ألا تحمل مرة أخرى.. خوفًا من تكرار الكارثة.. لكنَّ الأطباء طمأنوها إلى أن هذا مستحيل.. لأنه لا توجد صلة قرابة بينهما وبين زوجها كما تؤكد العوامل الوراثية.. وشجَّعوها على الحمل وإنجاب طفل آخر يعيد البسمة إلى حياتها وزوجها.. وشجعناها نحن أيضًا على ذلك.. على أمل أن يُرزق ابننا بطفل طبيعي يخفف من حزنه وصدمته في طفله الأول..
(6)
وحملتْ زوجة ابني للمرة الثانية.. وأنجبت طفلةً جميلةً شقراء نزلت إلى الحياة.. فتوقفت قلوبنا حتى زفَّ الطبيب البشرى بأنها ترى وتبصر كالأطفال العاديين.. وليست عمياء..
وسعدنا بها سعادة مضاعفة.. وانهالت عليها وعلى شقيقها المكفوف اللعب والملابس والهدايا.. وبعد سبعة شهور لاحظنا عليها أن نظرها مُركّز في اتجاه واحد لا تحيد عنه.. فعرضناها على أخصائي عيون للاطمئنان على سلامة عينيها.. فإذا به يصدمنا بحقيقة أشدَّ هولا..
وهي أنها لا ترى إلا مجرد بصيص من الضوء.. وأنها معرضة أيضًا لفقد بصرها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
ورأى زوجي ذلك فأصيب بحالة نفسية فسدت معها أيامه.. وكره كل شيء.. حتى بيته وأولاده وأسرته.. ثم تطورت حالته وازدادت سوءًا.. فأشار علينا الطبيب بإدخاله مصحة نفسية لعلاجه من الاكتئاب وانقباض الصدر..
وأحسستُ بهموم الدنيا تطأ على صدري بقسوة.. وفي غمرة ضيقي وأحزاني.. تذكرتُ تلك الفتاة الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفةً عمياءَ.. بعد أن أمضت معنا عشر سنوات ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء والضرب والهوان والحرمان..
وأخذت أتساءل مع نفسي: هل ما حلَّ بنا من مصائب ونكبات هو عقابٌ سماوي وانتقام إلهي لتلك الفتاة المسكينة؟!!..
لقد ظلمناها وعذبناها ونسينا عقاب ربها ومولاها!!.. فانتقم لها جبار السموات والأرض.. والجزاء من جنس العمل.. وكما تدين تُدان..
وأصبحت صورة تلك الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها.. وتسببنا في إصابتها بالعمى.. تطاردني في وحدتي.. وتملك عليَّ تفكيري..
وتعلَّق أملي في عفو ربي عما جنينا بحق تلك الفتاة المسكينة.. وأيقنتُ أن هذا هو السبيل الوحيد لتخلصنا من هذه النكبات المتتابعة والمصائب المتلاحقة.. التي تحل بنا واحدة بعد الأخرى..
فأخذتُ أبحث عن تلك الفتاة.. ورحتُ أسأل الجميع عنها.. حتى دلَّنا أحد الجيران.. على مكانها.. وعلمنا أنها تعمل خادمة بأحد المساجد..
فذهبتُ إليها وأحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي!!..
ورغم كل قسوة الذكريات فقد فرحتْ الفتاة بسؤالي عنها وحرصي على عودتها إلينا.. وحفظت العشرة التي لم نحفظها نحن.. ورَعَت العيش والملح الذي لم نرعه معها..
وعادت معي تلك الفتاة اليتيمة العمياء تتحسس الطريق وأنا أقودها بيدي.. وفرحتْ بسماع صوت ابنتي الشابة التي طالما أحبتها هذه الفتاة اليتيمة في طفولتها وصباها.. لأن ابنتي كانت تدافع عنها أمام ضرب زوجي وابني لها إذا قصَّرت في عملها..
وسكنت تلك الفتاة اليتيمة معنا في بيتنا الذي ذاقت فيه صنوف العذاب.. وأنواع المهانة والإذلال.. وأصبحتُ أخدمها وأرعاها وأقوم على شؤونها هي وطفلَيَّ.
كتبت إحدى الزوجات إلى محرر زاوية «بريد الجمعة» في جريدة «الأهرام» المصرية رسالة تقول فيها:
دفعني للكتابة إليك بيتا الشعر اللذان قرأتهما في ردك على إحدى الرسائل التي وصلتك من أحد القراء, ويقول البيتان:
إنما الدنيا هباتٌ
وعوار مُسترده
شدةٌ بعد رخاءٍ
ورخاءٌ بعد شده
فأردت أن أروي لك قصتي عسى أن تكون عبرة لغيري...
أنا زوجة وأم لفتاة بالسنة النهائية بإحدى الكليات النظرية.. ولي بالإضافة إلى الفتاة ابن متزوج ولديه طفلان.. وزوجي ضابط عسكري بالمعاش.. ونحن نعيش في أحد أحياء القاهرة..
ومنذ أن بدأتُ حياتي مع زوجي ونحن نعيش في حياة رغدة.. وقد استعنت طوال حياتي الزوجية على تربية أولادي بمربيات عديدات.. لا أتذكر عددهن من كثرتهنَّ!!.. ولا عجب في ذلك.. فقد كانت كل واحدة منهن لا تمكث عندي أكثر من شهرين.. ثم تفرُّ من قسوة زوجي العدواني بطبعه.. والذي لا أعرف هل اكتسب عدوانيته هذه خلال رحلة حياته أم أنها وراثية فيه؛ فقد كان يتفنن في تعذيب أي مربية تعمل عندنا.. ولا أنكر أني شاركتُه في بعض الأحيان جريمته بالقسوة على هؤلاء المسكينات..
(2)
ومنذ خمسة عشر عامًا.. وحين كانت ابنتي في السابعة من عمرها وابني في المرحلة المتوسطة.. جاءنا مزارع من معارف زوجي.. ومن أبناء بلدته.. يصطحب معه ابنته الطفلة ذات الأعوام التسعة.. فاستقبله زوجي بكبرياء.. فقال المزارع البسيط لزوجي..
إنه أتى بابنته لتعمل عندنا مقابل عشرين جنيهًا في الشهر!!..
ووافقنا على ذلك.. وترك المزارع المكافح طفلته الشقراء عندنا وهمَّ بالرحيل.. فانخرطت الطفلة في البكاء.. وهي تُمسك بجلباب أبيها.. وتستحلفه ألا يتأخر عن زيارتها.. وألا ينسى أن يسلم لها على أمها وأخواتها.. وانصرف الأب وهو دامع العينين.. وقد وعدها بتنفيذ ما طلبته منه..
وبدأت الطفلة حياتها الجديدة معنا.. فكانت تستيقظ في الصباح الباكر قبل أن يستيقظ طفلاي لتساعدني في إعداد طعام الإفطار لهما.. تحمل الحقائب المدرسية وتنزل بها إلى الشارع.. وتظل واقفة مع ابني وابنتي حتى تحملهما حافلة المدرسة.. وتعود للشقة بعد ذلك فتتناول طعام إفطارها.. وكان في الغالب فولاً بدون زيت وخبزًا على وشك التعفن!!
وفي بعض الأحيان قد نجود عليها بقليل من العسل الأسود أو الجبن..
ثم تبدأ بعد الإفطار في ممارسة أعمال البيت من تنظيف وشراء الخضر والمسح والكنس والطبخ.. وتلبية النداءات والطلبات الخاصة بأهل المنزل إلى منتصف الليل.. فتسقط حينئذ على الأرض كالقتيلة وتستغرق في النوم..
وعند أي هفوة أو نسيان أو تأجيل أداء عمل مطلوب منها.. ينهال عليها زوجي ضربًا بقسوة شديدة.. فتتحمل الضرب باكيةً صابرة.. ورغم ذلك فقد كانت طفلةً في منتهى الأمانة والنظافة والإخلاص لمخدوميها.. تفرح بأبسط الأشياء.. وكانت دائمًا تحنُّ إلى أبيها وأمها وأخواتها وقريتها..
ورغم اعترافي بأني كنتُ شريكةً لزوجي في قسوته على الخادمات.. وتفَننهُ في تعذيبهن.. حتى أنه كان أحيانًا يختلق الأسباب لضرب أي خادمة تعمل عندنا.. إلا أنه كانت تأخذني الشفقة في بعض الأحيان على هذه الفتاة لطيبتها وانكسارها وإخلاصها. فأناشدُ زوجي ألا يضربها..
وأقول له: إنها قد كبُرت وتعودت على طباعنا.. وتحملتنا كثيرًا فلا داعي للاستمرار في ضربها..
فكان يقول لي ضاحكًا: إنه لو لم يضربها فستطلب هي بنفسها منه أن يضربها!!.. لأنها قد تعودت على ضربه..
ثم يُتابع قائلاً: إن هذا الصنف من الناس لا تنفع معه المعاملة الطيبة..
* * * *
(3)
واستمرت الفتاة معنا.. تتحمل العذاب في صمت وصبر.. وأتذكر الآن أنه حين كان يأتي العيد يخرج طفلاي مبتهجين مُدللين.. بينما تبقى هذه الطفلة التي تماثلها في العمر تنظف وتغسل دون شفقة أو رحمة..
وبعد أن تنتهي من أعمالها الشاقة ترتدي فستانًا قديمًا لكنه نظيف.. لأنها كانت تحرص على نظافة ملابسها البسيطة.. أما أبوها فلم تره تلك الطفلة إلا مرات معدودة بعد عملها عندنا.. فقد انقطع عن زيارتها بعد شهور.. وبدأ يرسل أحد أقاربه لاستلام أجرتها الشهرية..
كما أنها لم ترَ أمها وإخوتها إلا في ثلاث مناسبات محددة:
الأولى: حين مات شقيقها الأكبر في حادث عند عودته من الأردن.. وكانت الفتاة المحرومة تُعلق عليه آمالاً كثيرة.. وتحلم بأن ينتشلها من العذاب الذي تعانيه عندنا.. فإذا به يلقى مصرعه وتفقد آخر أمل لها في النجاة.. فبكت عليه بحرقة وسرًا حتى لا يراها زوجي.. فتلقى عقابًا شديدًا على يديه.
والمرة الثانية لم تكن تعاطفا منا عليها.. وإنما كانت تخلصًا منها في الحقيقة.. فقد كانت مصابة بمرض مُعدٍ.. وخشينا على طفلينا من انتقال العدوى إليهما بواسطتها.. فأبعدناها إلى بلدتها بحجة أن ترى أمها وإخوتها..
وكانت المرة الثالثة عند وفاة أبيها.. بعد أن دخلت مرحلة الصبا.. واستقر الحزن والانكسار في قلبها..
وأقولها بكل صراحة:
إني أبكي الآن كلما تذكرتُ قسوة عقابنا لها إذا أخطأت أيَّ خطأ.. وكان لابدَّ أن تخطئ.. كأي طفلة صغيرة.. بل كأي إنسان..
لقد كان زوجي يصعقها بسلك الكهرباء!!.. وكثيرًا ما حرمناها من وجبة العشاء في ليالي البرد القارسة.. فباتت على الطوى جائعة.. ولا أتذكر أنها نامت ليلة لمدة سنوات طويلة دون أن تبكي!!..
(4)
وسوف تتساءل: ولماذا تحملت الفتاة كل هذا العذاب ولم تهرب بجلدها من جحيمكم وقسوتكم؟!!
وأُجيبك بأن الفتاة حين قاربت سن الشباب.. خرجت ذات يوم لشراء الخضروات ولم تعد إلى البيت.. فسأل زوجي البواب عنها.. وعرف أنها كانت تتحدث لفترات طويلة مع شاب يعمل لدى جزار بنفس الشارع، وأنه من المحتمل أن تكون قد اتفقت معه على أن يتزوجها وينتشلها من هذا الجحيم الذي تعيش فيه..
وبدأ زوجي في البحث عنها.. ولم يمضِ أسبوع حتى كان نفوذ زوجي قد تكفل بإحضارها من مخبئها.. واستقبلناها عند عودتها استقبالاً حافلاً بكل أنواع العذاب والقسوة..
فقام زوجي بصعقها بالكهرباء.. وتطوع ابني بركلها بعنف.. بينما بكت ابنتي وهي تقول لأبيها: حرام يا بابا.. هذا حرام.. حرام..
ففقد زوجي سيطرته على نفسه واستدار إليها وضربها هي أيضًا.. وكانت هذه المرة الأولى في حياتها التي يضربها فيها أبوها!!..
وعادت الفتاة لحياتها الشقية معنا.. واستسلمت لمصيرها المقدور.. واستمر الوضع كما كان عليه، تخطيء أو تؤجل عمل شيء بعض الوقت.. فيضربها زوجي ضربًا مبرحًا.. ونخرج في الإجازات للفسحة والنزهة.. ونترك لها بقايا طعام الأسبوع لتأكله..
ثم شيئًا فشيئًا بدأنا نلاحظ عليها أن الأكواب والأطباق تسقط من يديها.. وأنها تعثر كثيرًا في مشيتها، فعرضناها على طبيب العيون فأكد لنا أن نظرها قد ضعف جدًا بسبب ما تتلقاه من صدمات وضربات على منطقة الدماغ والعين.. وأنه ينسحب ويتقلص تدريجيًا.. وأنها لا ترى حاليًا قدميها.. أي أنها أصبحت شبه عمياء!!..
ورغم ذلك كله فلم نرحمها.. وظلت تقوم بكل أعمال نظافة المسكن.. وتخرج لشراء الخُضَر كما كانت تفعل.. وكثيرًا ما صفعتُها إذا عادت من السوق بخضروات ليست طازجة.. وكثيرًا ما كانت تفعل ذلك لضعف بصرها الشديد..
فأشفقتْ عليها زوجة البوَّاب.. فكانت تُجلسها في مدخل العمارة وتذهب هي لشراء الخضروات لها.. حتى تُنقذها من الإهانة والضرب.. واستمر الحال هكذا لفترة من الزمن..
(5)
ثم خرجت الفتاة ذات يوم من البيت بعد أن أصبحت كفيفة تقريبًا، ولم تعد إليه مرة أخرى.. ولم نهتم بالبحث عنها هذه المرة.. لأنها أصبحت في حكم العمياء تقريبًا.. وماذا نصنع بعمياء؟!!
ومضت السنوات فأُحيل زوجي للتقاعد.. واستقبل حياة الفراغ.. وفقد المنصب والنفوذ.. فتضاعفت عصبيته وثوراته.. وانقلاباته إلى حد غير محتمل.. ومع ذلك فقد تحملتُهُ بسبب عِشرة السنين..
وتخرج ابني من الجامعة وعمل وتوظَّف ثم عزم على الزواج بإحدى الفتيات.. فخطبناها له.. وهي فتاة رائعة الجمال..
وتزوجها وسعدنا بها.. واكتملت سعادتنا حين عرفنا أنها حامل، ثم جاءت اللحظة السعيدة.. وضعت مولودها الأول.. فإذا بنا نكتشف الحقيقة القاسية؛ إنه طفلُ أعمى لا يُبصر!!.. وتحولت الفرحة إلى سحابة كثيفة من الحزن القاتم..
وبدأنا الرحلة الطويلة مع الأطباء.. نتنقل من طبيب لآخر.. بحثًا عن علاج لهذا العمى الذي أصاب المولود الجديد.. ولكن بدون نتيجة..
واستسلم ابني وزوجته للأمر الواقع.. وانطفأ الأمل في قلبيهما.. وأدْخلْنا حفيدنا الموعود بالعناء والنصب حضانةً للأطفال المكفوفين والعميان..
وقررت زوجة ابني ألا تحمل مرة أخرى.. خوفًا من تكرار الكارثة.. لكنَّ الأطباء طمأنوها إلى أن هذا مستحيل.. لأنه لا توجد صلة قرابة بينهما وبين زوجها كما تؤكد العوامل الوراثية.. وشجَّعوها على الحمل وإنجاب طفل آخر يعيد البسمة إلى حياتها وزوجها.. وشجعناها نحن أيضًا على ذلك.. على أمل أن يُرزق ابننا بطفل طبيعي يخفف من حزنه وصدمته في طفله الأول..
(6)
وحملتْ زوجة ابني للمرة الثانية.. وأنجبت طفلةً جميلةً شقراء نزلت إلى الحياة.. فتوقفت قلوبنا حتى زفَّ الطبيب البشرى بأنها ترى وتبصر كالأطفال العاديين.. وليست عمياء..
وسعدنا بها سعادة مضاعفة.. وانهالت عليها وعلى شقيقها المكفوف اللعب والملابس والهدايا.. وبعد سبعة شهور لاحظنا عليها أن نظرها مُركّز في اتجاه واحد لا تحيد عنه.. فعرضناها على أخصائي عيون للاطمئنان على سلامة عينيها.. فإذا به يصدمنا بحقيقة أشدَّ هولا..
وهي أنها لا ترى إلا مجرد بصيص من الضوء.. وأنها معرضة أيضًا لفقد بصرها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
ورأى زوجي ذلك فأصيب بحالة نفسية فسدت معها أيامه.. وكره كل شيء.. حتى بيته وأولاده وأسرته.. ثم تطورت حالته وازدادت سوءًا.. فأشار علينا الطبيب بإدخاله مصحة نفسية لعلاجه من الاكتئاب وانقباض الصدر..
وأحسستُ بهموم الدنيا تطأ على صدري بقسوة.. وفي غمرة ضيقي وأحزاني.. تذكرتُ تلك الفتاة الكسيرة التي هربت من جحيمنا كفيفةً عمياءَ.. بعد أن أمضت معنا عشر سنوات ذاقت خلالها أهوال الصعق بالكهرباء والضرب والهوان والحرمان..
وأخذت أتساءل مع نفسي: هل ما حلَّ بنا من مصائب ونكبات هو عقابٌ سماوي وانتقام إلهي لتلك الفتاة المسكينة؟!!..
لقد ظلمناها وعذبناها ونسينا عقاب ربها ومولاها!!.. فانتقم لها جبار السموات والأرض.. والجزاء من جنس العمل.. وكما تدين تُدان..
وأصبحت صورة تلك الفتاة اليتيمة التي أهملنا علاجها.. وتسببنا في إصابتها بالعمى.. تطاردني في وحدتي.. وتملك عليَّ تفكيري..
وتعلَّق أملي في عفو ربي عما جنينا بحق تلك الفتاة المسكينة.. وأيقنتُ أن هذا هو السبيل الوحيد لتخلصنا من هذه النكبات المتتابعة والمصائب المتلاحقة.. التي تحل بنا واحدة بعد الأخرى..
فأخذتُ أبحث عن تلك الفتاة.. ورحتُ أسأل الجميع عنها.. حتى دلَّنا أحد الجيران.. على مكانها.. وعلمنا أنها تعمل خادمة بأحد المساجد..
فذهبتُ إليها وأحضرتها لتعيش معي ما بقي لي من أيامي!!..
ورغم كل قسوة الذكريات فقد فرحتْ الفتاة بسؤالي عنها وحرصي على عودتها إلينا.. وحفظت العشرة التي لم نحفظها نحن.. ورَعَت العيش والملح الذي لم نرعه معها..
وعادت معي تلك الفتاة اليتيمة العمياء تتحسس الطريق وأنا أقودها بيدي.. وفرحتْ بسماع صوت ابنتي الشابة التي طالما أحبتها هذه الفتاة اليتيمة في طفولتها وصباها.. لأن ابنتي كانت تدافع عنها أمام ضرب زوجي وابني لها إذا قصَّرت في عملها..
وسكنت تلك الفتاة اليتيمة معنا في بيتنا الذي ذاقت فيه صنوف العذاب.. وأنواع المهانة والإذلال.. وأصبحتُ أخدمها وأرعاها وأقوم على شؤونها هي وطفلَيَّ.
0 التعليقات:
إرسال تعليق